سورة البقرة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


أي: وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءاً واستخفافاً فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي: رقة الحلوم وفساد البصائر، وسخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك، إما حقيقة أو مجازاً، تنزيلاً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه، وأنهم متصفون به. ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم؛ لأنه لا يتسافه إلا جاهل، والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف، أي: إيماناً كإيمان الناس.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس} أي: صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنه نبيّ ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} يعنون أصحاب محمد، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء} يقول: الجهال {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} يقول: لا يعقلون.
وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واهٍ أنه قال: آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {كَمَا آمَنَ السفهاء} قال: يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله.
وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود: أي: إذا قيل لهم، يعني اليهود {ءامنوا كما آمن الناس} عبد الله بن سلام، وأصحابه {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء}.


{لَقُواْ} أصله لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف، وحذفت الياء، لالتقاء الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته: استقبلته قريباً. وقرأ محمد بن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: {لاقوا} وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه: إذا انفردت به. وإنما عدي بإلى، وهو يتعدى بالباء فيقال: خلوت به لا خلوت إليه؛ لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير.
وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان، فجعلها في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، فعلى الأوّل هو من شطن، أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شطّ، أي: بعد أو شاط: أي بطل، وشاط، أي احترق، وأشاط: إذا هلك قال الشاعر:
وقد يَشِيطُ علىَ أرمَاحِنا البَطَلُ ***
أي يهلك.
وقال آخر:
وأبْيَضِ ذي تاجٍ أشَاطَت رِمَاحنُا *** لمَعْتَركٍ بين الفوَارِس أقتمَا
أي: أهلكت. وحكي سيبويه أن العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
أيما شاطن عصاه عكا *** ه ورماه في السجن والأغلال
وقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه مصاحبوكم في دينكم، وموافقوكم عليه. والهزؤ: السخرية واللعب. قال الراجز:
قد هَزِئَتْ مني أُم طيْسلَه *** قَالَت أرَاهُ مُعْدمَاً لا مَال لَهُ
قال في الكشاف: وأصل الباب الخفة، من الهزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب: مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني. وناقته تهزأ به، أي تسرع وتخفّ. انتهى. وقيل أصله: الانتقام. قال الشاعر:
قد استهزءوا منهم بألفي مدجج *** سراتهم وسط الصحاصح جثم
فأفاد قولهم {إِنَّا مَعَكُمْ} أنهم ثابتون على الكفر، وأفاد قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} ردّهم للإسلام ورفعهم للحق، وكأنه جواب سؤال مقدّر ناشئ من قولهم: {إنا معكم} أي: إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا: إنما نحن مستهزءون بهم في تلك الموافقة، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} أي: ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم؛ انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة.
وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه. وورد ذلك في القرآن كثيراً، ومنه {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، ومنه {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] و{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 16] {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} [البقرة: 9] {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يملّ حتى تملوا» وإنما قال: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} لأنه يفيد التجدّد وقتاً بعد وقت، وهو: أشدّ عليهم وأنكأ لقلوبهم، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت، المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ؛ لأنه يألفه، ويوطن نفسه عليه. والمدّ: الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مدّ في الشر، وأمدّ في الخير، ومنه {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] {وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ} [الطور: 22].
وقال الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته: إذا أعطيته.
وقال الفراء واللحياني: مددت فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مدّ النهر، ومنه {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة} [آل عمران: 125] والطغيان مجاوزة الحدّ، والغلوّ في الكفر، ومنه {إِنَّا لَمَّا طغى الماء} [الحاقة: 11] أي: تجاوز المقدار الذي قدّرته الخُزَّان. وقوله في فرعون: {إِنَّهُ طغى} [طه: 24، 43] أي: أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]. والعمه والعامه: الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهى: إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى. والمراد: أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178]. قال ابن جرير {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.
وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} وهم إخوانهم قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} بأصحاب محمد {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} قال: يسخر بهم للنقمة منهم {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم} قال: في كفرهم {يَعْمَهُونَ} قال: يتردّدون.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} قال: رؤسائهم في الكفر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال: {وَإِذَا خَلَوْاْ} أي: مضوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {وَيَمُدُّهُمْ} قال: يملي لهم {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} قال: في كفرهم يتمادون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {يمدهم} يزيدهم {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} قال يلعبون ويتردّدون في الضلالة.
وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: «نعم».


قال سيبويه: صحت الواو في {اشتروا} فرقاً بينها وبين الواو الأصلية في نحو {وألّوِ استقاموا} [الجن: 16].
وقال الزَّجَّاج: حركت بالضم كما يفعل في نحن. وقرأ يحيى بن يَعْمُرُ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها لخفة الفتحة. وأجاز الكسائي همز الواو. والشراء هنا مستعار للاستبدال: أي: استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] فإما أن يكون معنى الشراء المعاوضة، كما هو أصله حقيقة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين، فيبيعوا إيمانهم، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء. قال أبو ذؤيب:
فَإن تزعميني كُنتُ أجهَلُ فيِكمُو *** فَإنِي شَرِيْتُ الحِلْمَ بَعْدك بِالجَهْلِ
وأصل الضلالة: الحيرة، والجور عن القصد، وفقد الاهتداء، وتطلق على النسيان، ومنه قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20]، وعلى الهلاك كقوله: {وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض} [السجدة: 10] وأصل الربح الفضل. والتجارة: صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي، وهو: إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل، كما هو مقرّر في علم المعاني. والمراد: ربحوا وخسروا. والاهتداء قد سبق تحقيقه: أي: وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة، وقيل في سابق علم الله.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {اشتروا الضلالة بالهدى} أي: الكفر بالإيمان.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: آمنوا ثم كفروا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: استحبوا الضلالة على الهدى، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8